المنتدى الخليجي الثالث للسياسات الأسرية

المنتدى الخليجي الثالث للسياسات الأسرية

ورقة عمل حول " مفهوم المواطنة ودور السياسات الاجتماعية في ترسيخ المواطنة المسئولة وأثرها على بناء الفرد والتماسك والاستقرار في المجتمع" إعداد: سعادة الأستاذة هالة بنت محمد جابر الأنصاري الأمين العام للمجلس الأعلى للمرأة - مملكة البحرين

 

بسم الله الرحمن الرحيم 

الحضور الكريم،  

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسعد الله صباحكم جميعاً بكل خير،  

تطيب لي المشاركة في أعمال هذه الندوة الهامة بدعوة كريمة وتنظيم مشكور للمكتب التنفيذي لوزراء العمل والشئون الاجتماعية بدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، لما يشكله موضوعها من أهمية كبيرة بتناول دور السياسات الاجتماعية، في عالمنا المتغير والمتسارع بالأحداث، لضبط ورفع مستويات الأمن والرفاه الاجتماعي، وفي تحصين الهوية الوطنية كقاعدة لاستقرار الروابط القانونية بين الأفراد ودولهم، فالجميع سواسية في الحقوق والواجبات وفي ممارسة أدوارهم بفعالية في مختلف المجالات الوطنية.  

وبدون شك، فإن التركيز على تطوير وتحديث السياسات الاجتماعية وربطها بالمواطنة والهوية وتقييم أثرها على التماسك والاستقرار المجتمعي، يجب أن يتصدر قائمة الأولويات ونحن نستمر في احتواء تداعيات الجائحة الصحية بآثارها الاقتصادية والاجتماعية، وبما يستجد من تحديات وظواهر مربكة لقيم مجتمعاتنا الخليجية والعربية والإسلامية، التي يجب أن يكون التعامل معها على مستوى ما تمثله من خطر على الهوية الجمعيّة والنسيج المجتمعي والمنظومة الفكرية والعقائدية لشعوب المنطقة.  

لذا فإنه من الأهمية بمكان، أن تعمل السياسات الاجتماعية، من خلال ما هو مأمول منها، على تعزيز التماسك الاجتماعي في المرحلة الآنية، وكمحرك لبرامج التعافي الوطنية، عبر التركيز على عناصر الحماية الاجتماعية وعدالة إتاحة الفرص، وتحقيق التوازن المطلوب بين متطلبات التنمية الاقتصادية وضرورات السياسات الاجتماعية.          

الحضور الكريم، 

لقد تناولت العديد من الدراسات والأبحاث موضوع "المواطنة، والهوية الوطنية"، وتعددت الآراء في توصيفها وتحديد أبعادها وتأثيرها على تأطير واستقرار العلاقة التي تربط الإنسان بوطنه في علاقة تكاملية بين الحق والواجب، التي متى ما توازنت كفتيها تعمّق الشعور بالانتماء والاعتزاز بالهوية الوطنية، وبذل كل ما يلزم للدفاع عنها والعمل على ما يقويها. 

كما أن هذه العلاقة المتبادلة بين الأفراد والدولة التي تنظمها الدساتير والقوانين بما تتضمنه من واجبات وحقوق إنسانية شاملة، هي علاقة قابلة للتغيير والتطوير بين فترة وأخرى، لرفع قدرة المجتمعات على التمتع بالحقوق وممارسة الحريات التي تقرها هذه الدساتير والقوانين، ولتحقيق الانسجام بين أفراده مهما بلغ الاختلاف والتنوع العرقي والعقائدي والفكري، فالجامع تحت مظلة الوطن هو مصلحته العليا.  

ولضمان الممارسة الصحيحة للمواطنة الحقّة، يجب أن يتم تبني هذا المفهوم كمفهوم متعدد الأبعاد والمكونات، سواء على المستوى القانوني والاجتماعي الشامل لمنظومة الحقوق والواجبات والمسئوليات، أو على المستوى المعنوي والمدني والمتضمن لمجموعة الحريات والسلوكيات المعبرة عن الانتماء الوطني، ونؤكد هنا على الدور الذي تلعبه المواطنة كأساس لتطوير الحياة السياسية واستقرارها لحماية قيم المساواة والحرية والعدالة، وضمان تمتع الجميع بتلك القيم، في رحاب دولة المؤسسات والقانون. 

وتشير ميادين التجربة، بأن المواطنة المسؤولة لا تتشكل بأبعادها المعرفية والوجدانية أو السلوكية لدى الأفراد بصورة تلقائية، أو نتيجة للغرائز الفطرية، وإنما تتشكل نتيجة للجهود التي تتولاها الأسرة والدولة بمؤسساتها المختلفة، بدءاً من الأسرة كأولى المؤسسات الاجتماعية وأكثرها تأثيراً في عملية التربية والتنشئة الوطنية، حيث يٌكون الفرد المفاهيم والقناعات والاتجاهات الوطنية في صيغتها المبكرة 

ويعوّل كثيراً على هذه القدرة الأسرية في زرع تلك القيم واستشعار أهميتها. وفي تقديرنا، فإن جانب العدالة الاجتماعية التي تنظمها وتعمل على تحقيقها السياسات ونظم الحماية الاجتماعية، إلى جانب ما تتيحه مسارات المشاركة الشعبية والتعبير عن الرأي والاستجابة إلى التطلعات الوطنية عبر تطوير كل ما يلزم لرفع مستويات الاستقرار الأسري، هي جميعها متطلبات أساسية للحفاظ على قوة ومتانة المنظومة الأسرية والاعتماد عليها كعنصر أصيل لتماسك الهوية الوطنية.  

ثم تأتي المؤسسات التربوية والتعليمية ودورها المكمّل لدور المنظومة الأسرية، وفي ميدانها تتفتح مدارك النشء وتتبلور اتجاهاته، لتتشكل الهوية الوطنية من خلال ما تتوجه المناهج التعليمية بتقديمه من مواد تربوية، تمزج بين تنمية الوعي الوطني وبين ممارساته الصحيحة، فيكون على سبيل المثال، احترام الحق العام والمحافظة على نظافة الحي ومراعاة حقوق الآخرين، أولى ملامح المواطنة المسئولة 

ولا تقل أهمية المنصات الإعلامية والمنابر الدينية عما سبق ذكره بالنظر إلى تأثيرها الكبير على الوعي، ولما تمتلكه من إمكانيات هائلة لتغيير وتطوير القناعات، وتنمية الحس الوطني، وتوضيح أهمية التمسك بالقيم الروحية والفكرية والثقافية، مع استحضار العبر والدروس التي تلهم وتحفز الأجيال الجديدة على الأخذ بها، بهدف المحافظة على صورتهم الوطنية كمصدر لفخرهم وأساس لتفاعلهم مع محيطهم الإنساني، بما يملكون من قيم تميزهم وترتقي بحياتهم وحياة مجتمعهم.  

ولا نغفل كذلك عن دور تنظيمات ومؤسسات المجتمع المدني التي عرفتها المجتمعات الخليجية بحراكها الميداني الطويل كمصدر من مصادر التطوير والتحديث الاجتماعي، بالنظر إلى دورها الفاعل في تبني القضايا المرتبطة بالتنمية الاجتماعية وصياغة النظم التي تحفظ الكرامة الإنسانية، إلى جانب تبنيها للظواهر والقضايا العامة للإسهام في توجيه المسارات التنموية.  

لذا وجب الاستمرار في إبقاء الدور المدني نابضاً بالنشاط لحماية الهوية الوطنية وتشكيلها تشكيلاً صحيحاً من جهة، والعمل كما هو متوقع منها بالتأثير على صناّع القرار الاجتماعي والسياسي لتطوير ما يتاح للمواطنين من فرص وخدمات ترتقي بهم، ليرتقوا بدورهم بمجتمعاتهم.  

وكل ما تقدم لن نتمكن من بلورته إلا تحت ظلال الدولة المدنية بمؤسساتها وقوانينها، وقد أولت دولنا الخليجية اهتماما خاصا بالمواطنة وأصبحت سياساتها الاجتماعية مصدراً رئيسياً لتعزيز الهوية الوطنية ورفع مستويات الانتماء، بما ترمي إليه من توجهات تعمل على تحقيق الرفاه الاجتماعي الشامل لمواطنيها.  

الحضور الكريم، 

اسمحوا لي على عجالة أن أتناول بعض الممارسات العملية التي انتهجتها مملكة البحرين على صعيد موضوع الندوة، وذلك بالإشارة إلى الخطة الوطنية لترسيخ قيم المواطنة وتعزيز الانتماء الوطني، التي تم وضعها والبدء بتنفيذها منذ العام 2019 من خلال حزمة متنوعة من المبادرات والبرامج بالشراكة مع مؤسسات الدولة والمجتمع، والمنبثقة من الخطط والسياسات الوطنية للمؤسسات التربوية والشبابية وذات الاختصاص والعلاقة بالتنمية الاجتماعية وتقدم المرأة البحرينية، ويتم متابعتها من خلال مؤشرات قياس محددة لبيان تأثير تلك البرامج على الواقع العملي. 

ومما تجدر له الإشارة، فإن الخطة الوطنية لنهوض المرأة البحرينية التي تأخذ مرتبة السياسة العامة لمتابعة تقدم المرأة وتحقيق التوازن بين الجنسين، تعتبر رافداً من روافد السياسة الاجتماعية الشاملة في مملكة البحرين، وتحرص من خلال استراتيجيات عملها على تطعيم برامجها بما يسهم في تكريس قيم التكافل الاجتماعي والاستقرار الأسري والمجتمعي، ولما يضمن تعزيز دور المرأة كلاعب أساسي في الحفاظ على منظومة القيم والهوية الوطنية في محيط دورها التربوي إلى جانب الرجل. 

ومن أبرز المبادرات التي نعتز بها على الصعيد الوطني، هي إنشاء مركز خاص لدعم المرأة البحرينية لمتابعة كافة احتياجاتها وحل المشكلات التي تواجهها، سواء المرتبطة بالحماية الاجتماعية أو الخدمات الإسكانية أو الشئون الأسرية أو حتى القضايا المرتبطة بمحيط العمل. كما تطور مملكة البحرين المشروع الخاص بدعم وتمكين الأسر المنتجة، بشكل مستمر، وقد خُصصت جائزتين لتشجيع منتجات الأسر ومشاريعها، على المستويين الوطني والعربي، باسم صاحبة السمو الملكي الأميرة سبيكة بنت إبراهيم آل خليفة، قرينة العاهل المعظم، وتهدف هاتين المبادرتين إلى ربط المنتج الوطني بالأسواق المحلية والعالمية ولتمكين الأسر المنتجة من التوسع في أعمالها. 

الأخوات والأخوة، إن المنجز الخليجي على صعيد صياغة وتنفيذ السياسات الاجتماعية، وبالنظر إلى نتائجه الغزيرة، يتطلع - اليوم - لاستمرار التعاون وتفعيل قنوات تبادل الخبرة والمعرفة بين دول المجلس لرفع مستوى تأثير تلك السياسات في تحصين الهوية الوطنية والمواطنة المسئولة، ونود، في هذا السياق، طرح الملاحظات والتوصيات التالية: 

 

1.إن ترسيخ قيم المواطنة والتماسك الاجتماعي هي مسئولية مشتركة لكافة مكونات المجتمع، بأفراده ومؤسساته، تدعمها الثوابت الوطنية للدولة من دستور وتشريعات بما تضمنه من حقوق وواجبات وأدوار لكافة الأطراف 

2.ضرورة العمل على تطوير وتحديث السياسات الاجتماعية بدول مجلس التعاون لتشمل تطوير شبكات الحماية الاجتماعية، لتمكين المواطنين من الجنسين للارتقاء بظروفهم الاجتماعية والاقتصادية، ووضع المزيد من الحلول المبتكرة التي تعمل على تحقيق الرخاء الشامل للجميع. 

3.ربط مخرجات السياسات الاجتماعية في الدول الخليجية، التي تشمل كل ما له علاقة بدعم تقدم المرأة والأسرة والطفل والشباب والمسنين وذوي الإعاقة والاحتياجات الخاصة، وكذلك الخدمات المقدمة للمواطنين من تعليم وإسكان وصحة ودعم مهني وضمان اجتماعي، وغيره، بمؤشرات الأمن والاستقرار المجتمعي، مع ضرورة التأكد من دور تلك السياسات في تحقيق أعلى مستويات الاكتفاء الذاتي للأسرة الخليجية.     

4.إبراز دور المنظومة الأسرية، كصمام أمان، في عملية التنشئة الاجتماعية لغرس القيم والهوية الوطنية والخليجية وصد الغزو الثقافي العابر للحدود، من خلال تكثيف البرامج وتجديدها، لإجادة هذا الدور في تحصين المجتمع واستقراره.  

5.أهمية تنشيط دور الإعلام المسؤول وخصوصاً وسائل الاعلام الجديد من خلال تشجيع الطرح الهادف والتوعية بسبل الوقاية والتعريف بمزايا الهوية الخليجية والعربية والإسلامية القادرة على التعامل مع الموجات الثقافية والفكرية القادمة من خارج حدودنا والتي يجب أن نميز بين غثها وسمينها.  

6.الاستمرار في تقوية دور المؤسسة التربوية والتعليمية الوطنية وتطوير طرق التدريس المخصصة لتنمية حس الانتماء الوطني لدى الأجيال الجديدة، وأن تكون المناهج المخصصة لذلك مرنة وقابلة للتطوير المستمر، والتركيز على التربية المدنية بمفهومها الشامل.  

7.تكثيف الخطاب الديني الداعي إلى احترام القيم الوطنية والمحفزة للسلوك المدني المتحضر النابع من شريعتنا الإسلامية الغراء التي تطالب المجتمعات ومواطنيها بالسعي في تنميتها واستقرارها وحفظ مكتسباتها.   

8.الاستمرار في دعم وتعزيز الشراكات مع مؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص في تنفيذ السياسات الاجتماعية، وتنمية دور تلك المؤسسات في كيفية تجسيد قيم الولاء والانتماء والهوية الوطنية. 

9.تسليط الضوء على أفضل الممارسات والسياسات الوطنية لوضع إطار استرشادي عام خليجي للاستهداء به على الصعيد الوطني والاستفادة من توجهاته في بناء المواطنة المسئولة.  

10.إنشاء منصة خليجية مشتركة لجمع البيانات ذات العلاقة بالسياسات الاجتماعية لتشخيص القضايا والظواهر الاجتماعية بما يسهم في تطوير ممارساتها ومبادراتها وحلولها المبتكرة.  

11.تكثيف الدراسات النوعية والبحوث الاكاديمية والميدانية التي توضح أثر مبادرات السياسات الاجتماعية على الاستقرار المجتمعي والتنمية الاقتصادية وتماسك الهوية الوطنية وقدرتها على صد المخاطر والتعامل مع التحديات المستهدفة لأمن واستقرار المجتمعات الخليجية. 

شاكرة لكم حسن استماعكم، مع خالص تمنياتي لأعمال الندوة بتحقيق أهدافها المرجوة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.